اكـذوبة الـفـرضيـة الآشوريـة

0
1692
gorgis-mardo.jpegد . كوركيس مردو

الجـزء الأول

ان مقالتي هذه رد على ما كتبه الـداعية الآشوري آشور كيوركيس  في موقع كتابات في 19 / 6 / 2009 بعـنوان  “رُهـاب الآشورية ”

1 – إنـقراض الآشوريين القـدماء

يقول الآثاري( نيكولاس بوستكَيت) في كتابه ( حضارة العراق وآثارُه ص . 122 ، لم يكن الانحطاط السياسي لدولة آشور مُتوقعاً بهذا الشكل السريع ، كما لم يكن سقوطُها مفاجئاً ،  ولكن اختفاءَها التام كان لُغزاً مُحَيِّراً ، ظَهَرَت امبراطوريات مماثلة وانهارت كالمملكة الحِثِّية العظيمة ، بيدَ أنها لم تختفِ اختفاءً كاملاً  مثلما حدث للدولة الآشورية  ، والشيءَ ذاته يُؤكِّدُهُ المؤرخ ( سِدني سمِث )  <  إن زَوالَ الشعبِ الآشوري سيبقى دائماً ظاهِرةً فريدةً ومُلفتةً للنَظَر في التاريخ القديم ، ممالكُ  وامبراطوريات مُماثِلة قد تَوارَت حَقاً ، ولكن الشعبَ استمَرَّ في الوجود . . . لم يُسلَب ويُنهَب أيُّ بَلَدٍ آخَر على ما يبدو بالصورة الكاملة كما حَصلَ  لبِلادِ آشور ! >  ويقول البروفيسور  سيمو باربولا / جامعة هلسنكي  ( بعد  حَربٍ  أهليةٍ  مُطوَّلة استطاع  البابليون أي الكلدان  والميديون المُخضَعون سابقاً لبِلادِ آشور أن يَقهَروا ويُدَمِّروا نينوى عاصمة الامبراطورية الآشورية في العهدِ الآشوري الحَديث ، وتلاشت المدينة العظيمة في لَهيبٍ من النيران ، ولم تَستَعِد مَنزِلتَها السابقة أبداً . وبعد ذلك بثلاث سنوات  قامَ نفسُ المُتمَردين ثانيةً  بتَدمير العاصِمة الآشورية الغَربية < حرّان >  ساحقين بذلك آخِرَ خَندق للمقاومة  لملكِ  بلاد آشور الأخير < آشور اوبليط الثاني > هذا الحدَث  خَتَمَ  مصيرَ الامبراطورية الآشورية ، وهنا ينتهي عادةً عَهدُ الآشوريين في الكُتُب التاريخية ) ويُضيفُ باربولا ( أولاً : قلَّما لَمِسَ  عُلماءُ الآشوريات هذه المسألة حيث يبدو أن أغلبَهُم يتَّفقون وبدونِ الإدلاءِ علناً مع الفِكرَة القائلة بأن الآشوريين قد اُبيدوا عن بِكرة أبيهِم كما ذَكر من قبلُ المؤرخ سِدني سمِث . ثانياً : على خِلاف  وَفرَةِ المعلومات  عن فترة الامبراطورية ، فإن المعلومات  عن بلاد آشور ذاتِها  يبدو مؤازراً  لفِكرة الإبادة الجماعية  والتي  تبدو  أيضاً  مُعَزَّزة  بإفادات  شهود  العَيان القُـدَماء . )  وقد  تَحَدّى المؤَرخ  الأب ألبير أبونا  في  مقالتِهِ  المنشورة  في  موقع  عَنكاوا.كوم  الالكتروني  < البحث عن القومية >  كُلَّ  أدعياء  الآشورية المُعاصرين المُتزَمتين  وبعض المُنجرفين  وراءَهم  من الكلدان المُغَرَّر بهم  إن كان  بإمكانِهِم إثبات عدم انقراض الآشوريين النهائي  بأدِلَّةٍ علمية وتاريخية بعيداً عن الدَجَل السياسي المبني على التزوير والتحريف والأوهـام .

الابنُ الكلداني البار  نبوبولاصِّر هو إبنُ الملك ( بيل ابني ) الذي تسنَّمَ عرش بابل عام 702 – 700 ق . م  في عهدِ  الملك الآشوري سنحاريب ، فهو إذاً أحد  أحفادِ  الملكِ  الكلداني الثائر ( مردوخ بلادان )  كان حاكماً على  القطر البحري على عهد  حفيد سنحاريب (الملك آشور بانيبال ) ،  وكان يتحيّنُ الوقت المناسب ليستعيد عرش بابل من مُغتصبيه الآشوريين ،  فبعد موت آشور بانيبال عام 627 ق . م تفاقمَ  تدهورُ  الأوضاع  في الدولة الآشورية عمّا آلت إليه في أواخر فترة حُكمِهِ  ، فانتهزَ الفرصة نبوبيلاصَّر وأعلن الاستقلالَ عن الدولة الآشورية  واعتلى العرشَ البابلي عام 626 ق . م  ،  مؤسِّساً  سُلالة  بابل الحادية عشر الدولة  الكلدانية  أو البابلية  الحديثة  ثمَّ  الامبراطورية  الكلدانية ولـُقـِّبت بالامبراطورية  البابلية الحديثةأيضاً باعتبارها امتـداداً للإمبراطورية البابلية الأولى التي أسسها الملك العـظـيم حمورابي  . قامَ بتصفـية الوجود العسكري الآشوري  من المناطـق البابلية ،  وفَرَضَ حُكمَهُ على الجنوب بأكملِهِ  بتوحيــدِهِ القبائل الكلدانية  تحت  الهويَّة الكلدانية الواحدة ، مُلغياً  بذلك  نظامَ القبائل والبيوتات المتعدِّدة ،  ثمَّ بدأ بضمِّ مناطق واسعة الى مساحة مملكَتِهِ  من الشمال والشرق والغرب ، وبعد قضائه بالتعاون مع حليفه الملك الميدي  كي اخسار على الدولة الآشورية  ما بين عامي 612 – 609 ق . م  أصبحَ اقليم آشور وكافة المناطق التابعة له حتى حدود  آسيا الصغرى اليوم  بما في ذلك  آشور ونينوى  وأربيل ( حدياب )  كما  أفادَت المصادر التاريخية  ( مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة / طه باقر ص. 548  –  عظمة بابل / هاري ساكز ص. 170 – 171 – تاريخ  سوريا  ولبنان وفلسطين / الجزء الأول / فيليب حتي ص. 155 – 156 –  انتصار الحضارة / جيمس هنري  ترجمة أحمد  فخري ص. 231 وهنالك  مصادر اخرى كثيرة ) ضمنَ مساحة الدولة البابلية الكلدانية بالاضافة الى بلاد الشام وفلسطين  ولبنان وشبه الجزيرة ، حيث احترم الميديون  مضمونَ المعاهدة  المعقودة  بينهم  وبين الكلدان ،  واكتفوا  بما استولوا عليه من الغنائم الهائلة التي حصلوا عليها من العواصم الآشورية ، واحتفظوا بالاقاليم الشمالية والشمالية الشرقية لنينوي التي  كانوا قد استولوا عليها قبل عقد  المعاهدة ، أما  الأقاليم الغربية فخضعت  لسُلطة الدولة الكلدانية  وبضمنها العواصم الثلاث الادارية والدينية والعسكرية  التي  شَغِـلَها أبناءُ الكلدان وأحفادُهُم  منذ ذلك الزمان وحتى اليوم .

وإنَّ  التواجد  الكلداني كان قائماً  في البلاد الآشورية  قبل  زوال الكيان  الآشوري ،  وزادت  كثافتُه  أضعافاً  بعد  زواله  بحُكم سيطرة  الكلدان  على البلاد الآشورية  وتَحَوِّلها  الى  جزءٍ  مِن  بلاد  الكلدان ،  حيث يقول الاستاذ حبيب حنونا ( الكلدان والتسمية القومية ) كان  الملوكُ الآشوريون في خِضَمِّ حَملاتِهم العسكرية  المتواصلة  على  الممالك الكلدانية  خلال الفترة المحصورة بين القرن الحادي عشر والقرن  السابع  قبل الميلاد، قد أسِروا ما يربو على نصف مليون فردٍ من الكلدان ، ورَحَّلوهم الى مناطق الشمال والشمال الغربي والشمال الشرقي لإقليم آشور ، وتُشير المصادر بأن مُعسكرات كانت قد اُنشئَت للأسرى الكلدان ، يُطلق عليها  < بيث شبيا >  وتعني  بيت السبايا  في قرية كرمليس  وقرية بابلو القريبة  من دهوك ،  كما أن معسكراتٍ  كان قد  تَمَّ إنشاؤها  في منطقة العمادية شمالي دهـوك بين بابـلو وارادن وايـنشكي ، وبعد سقـوط نـيـنـوى وخضـوع تلك المناطـق للحُكم الكلداني ، قام هؤلاء الأسرى الكلدان بحسب تأكيد هذه المصادر بتحويل هذه المعسكرات الى مجمعات ووحداتٍ سكنية ،  ويؤَكِّد التـواجد الكـلداني في  شمال  بلاد ما بين النهرين  المؤرخ اليوناني  (زينفون) الذي رافـق الحملة العسكرية اليـونانية المعروفة ( بفرقة العشرة آلاف ) عام 410 قبل الميلاد في كتابه ( حملة العشرة آلاف / ترجمة يعقوب منصور ص . 182 )  وعند تـقهـقرها أمام الفرس بمعركة  قرب بابل عادت ادراجها متوجهة الى بلادها وفي طريق  العودة يقول  زينفون : ـــ  قبل اجتيازنا حدود ارمينيا ( أسيا الصغرى أو تركيا الحالية ) وعلى الضفة الثانية لنهر دجلة ، جابهتنا قوات كثيرة تتألف من صنوف مختلفة ، حاولت منعـنا من عبور النهر، ولدى استفسارنا هن هـوية تلك القوات ،  علمنا أنها  قوات ارمنية  وكلدانية  وماردينية وكانت تابعة  لأورنتاوس و اوتوخاس ، ويُضيفُ قائلاً : لقد قـيل لنا بأن الكـلدانيين شعبٌ حُر لا يُضاهيهم شعبٌ آخر في المنطـقة من حيث مهارتهم في القتال !

إنها حقاً  حقائق تاريخية  دامغة  تُعَرّي زيف المغالطات والأكاذيب التي يُروِّجُـها أدعياء الآشـورية المزيَّـفـون وعملاؤهم المأجورون الذين يُرعِبُهم اسمُ الكلدان ،  حتى أنهم  ولشدة  كُرهِهم  للكلدان ينفون عنهم عملية القضاء على الدولة الآشـورية ويَعـزَونَ ذلك الى الميـديـيـن ! وهذا بحدِّ ذاته يُعتبَـرُ نُـبلاً في خِصال الكلدان ، وإن هم يُـردِّدوه خلافاً لكُل ما أكَّده المؤرخون ومنهم على سبيل المثال لا الحصر المؤرخ الشهير ( جورج رو ) الذي يـؤَكِّد  سيطرة الكـلدان على كامل الاقليم الآشوري بشكل مُحكم بحيث لم يحدث أي تمَرُّدٍ أوأي تحرُّكٍ  مضاد للإمبراطورية  الكـلدانية حتى سقـوطها على يد الملك الاخميني كورش عام 539 ق . م  بسبـب خيانة داخـلية  لقائد عسكري في الجيش الكلداني وتـآمُر يهودي داخـل البلاط  .  إذا كان الميديـون قد قضوا على الدولة الآشورية  كما يحلو لدُعاة الآشورية المعاصرين قـوله ، فما أغباه من قـول ، لماذا تخلـوا عن حُكم بـلاد آشور ! ! ألا  يعني هذا أن دورَهم كان دوراً ثانـويا مساعداً للكـلـدان , ليس كالدور الأساسي الكـلـداني ! ! ولـذلك فرض الكلدانُ سيطرتهم الكاملة  على البلاد الآشورية .

2 – ما سرُّ ظهـور الآشورية بعـد 25 قـرناً مِن إنـقـراضها ؟

إذا كانت الشواهدُ على مُجريات التاريخ تؤَكِّدُ انقراضَ الآشوريين بعد سقوطِ  نينوى المأساوي عام 612 ق . م  والقضاءِ المُبرم بعد ثلاث سنوات على بقاياهم الذين استطاعوا الإفلات مِن ألسنة السيوف والنيران واللجوءَ الى المدينة الغربية حرّان ، ومِن ثمَّ زوال اسمهم مِن ذاكرة التاريخ ،  كيف يا تُرى ظهر إسمُهم ثانيةً  وعلى حين غِرَّةٍ بعد اختفائه لمُدَّةِ خمسةٍ وعشرين قرناً ووُجدَ له أتباع ؟ أليسَ وراءَ أكَمةِ هذا الظهور المُفاجيء لُغزٌ ؟ أجلْ ، إنها الدوافع الخفية  لتحقيق أهدافٍ تسعى إليها  جِهة دولية  قوية هي المملكة الانكليزية المُتحدة ! أرادَت مِن إحياء هذا الاسم وإطلاقه على جزءٍ عزيـز مِن شعـبـنا الكـلداني المعروف بالنسطوري والـقاطـن في منطـقة آثور الجبـلية ( هيكاري ) لجعلِه كبشَ فداءٍ لتقويةِ نفوذِها الاستعماري ، حيث كان الـتـنافسُ على أشُـدِّه  بين الدول الإستعمارية ( انكلترة وفرنسا وروسيا وألمانيا ) في أواخر القرن التاسع عشر للإستحواذ على أوسع رقعةٍ جغرافية مِن المناطق الخاضعة للنفوذ العثماني ، ومِن أجل هذا الغرض كانت تتسابقُ كُلُّ واحـدةٍ مِن هذه الدول على التدخُّـل في  شؤون الـدولة العـثمانية الهَـرِمة والتي لُقِّبت ( بالرَجُل المريض ) حيث كان الإنحِلالُ قد دَبَّ في أوصالها ،  ورأت أن قيامَها بايـقاظ النعرات القومية والطائفـية والدينية  بين أبناء الشعـوب الرازحة تحت حُكم هذه الـدولة العاتية هو الوسيلة الأسرع لـزرع الشك وانعـدام الثقة بين بعضهم البعض فعمدت الى ايقاد نار الفِتَن بينهم ، وقد لعبت البعثات التبشيرية الاوروبـية دوراً بارزاً في تهـيئةِ مناخ مُساعد لإستثارةِ النـزعات القومية والديـنية ،  وكان دورُ  بـعثة الكنيسة الانكليكانية  ( بعثة اسقف كانتِربري ) الأشَـدَّ خِداعاً وتخريباً بين أدوار البعثات الاخرى ، فقد قطعت لهم عهـدا باسم مملكة انكلترة ، بأنها ستـؤَسس لهم وطـناً قـومياً على أنقـاض الـدولة الآشورية القـديمة المنقـرضة ، وهذا يتطـلـَّب منهم الإدعاء بأنهم أحـفاد الآشوريين القـدماء ، إذ لا يُمكن تأسيس وطن لهم في حالة استمراهم على تسميتهم المذهبية ( النساطرة )  ويُـشيـرُ  أحمد سوسة الى هذا الـدور في كتابه ( مفصل العرب واليهود في التاريخ ص . 596 – 597) <  وَفـَـدَت الى جماعة مار شمعون بعثة تبشيـرية انكليـزية ، وحاولت  تحـويـل هذه الـجماعة  مِن مذهـبهـم الـنسطـوري الى مذهـبـها البروتستانـتي ، غيرَ أنها لم تُـفـلح ، ولكـنها نـَجَحَـت في إقـنـاعهـم بأن ( النسطورية  –  النساطرة ) لا تـليـقان بهـم ، وعليهم استبـدالهـما بلفظـتي ( آثور –  آثوريين ) لكي ترفـعا مِن شأنهم في الأوساط العالمية ، ويكون بالإمكان في هذه الحال نَسبُهـما الى الآشوريين القدماء ، ويُضيـفُ سوسة  ، لم يـذَّخِـر رئيسُ الـبعثة  وليم ويكرام وِسعاً في لِعـب دور ٍ دعائيٍّ كبـير لـنشر هذا الاسم ( آثوريين ) وتعـريـف العالَم بالمأساة التي تعـرَّضَ لها مَن دعاهم ( أحفاد شلمَنَصَّر ) ، بـينما لم يكن هؤلاء النساطرة يعرفون هذا الاسم إلا بعد قـدوم هؤلاء المُبشِّرين.                         

 وتحت هذه الإغـراءات والتـعـهـدات الكـاذبة استطاع المُخادعـون الإنكليز إقـناع البطريرك شمعـون روبين وابنة شقـيقـه سُـرمـا وعـددٍ من رؤساء عشائرهم ، تحـدوهم رغبة ٌ جامحة بالتخـلـُّص من سيطرة وظـُلم الشعـوب المُسلمة المحيطة بهم ، ولـذلك لـَبـّوا مطالب الإنكليز وقـرَّروا التـعاون معهـم متـأثّـرين بالأفكـار التي عرضـوها عليهم . ولكي يُـثـبـت الإنكليز حسن نيتهم لهؤلاء الناس الذين كانوا في حالةٍ يُرثى لها من الجهل والبـؤس والفـقـر ،  فـتحـوا لأبنائهم المـدارس ، وأصدروا لهم جريدة باسم ( زهريرا ) ، وفي سبيل أيِّ فِـكـر ٍ سلبي لدى البطريرك مار شمعـون ، منـحـوه وعائلته مبلغ ( 7000 ) جنيه استرليني . ونتيجة ً لمدى الجـهل المسيطر على هؤلاء الكلدان النساطرة انطلـت عليهم ألاعيب الإنكليز ونـواياهـم الخبيثة .

ومِن أهمِّ الأهـداف التي سَعَـت المملكة المتحـدة لتحـقيـقَها عن طريـق هؤلاء الكـلـدان النساطرة الـذين أثـوَرتهـم بالإضافة الى جانـب إيـجاد موطيءِ قـدم لها في لُـبِّ السلطـنة العثمانـية، ومنافسة نفوذِ روسيا القيصرية هو فرض رأيها بشؤون السلطـنة ، كان سعـيُها الى ايقاف المَد الكاثـوليـكي الذي كادَ يكـتسح منطـقة نفـوذ مار شمعون ،  فاستخدمت لتحقـيـق هذا الغرض مبعـوثي كنيسة كانتيربري الأنكـليكانـية وأسطـع بُرهان على ذلك ما أوردته ( مجلة النجم في عَدَدِها الخامس لسنة 1929م ): < كانت بعثة رهبانية كاثوليكية دومنيكية قد حَلَّت في منطقة رعايا مار شمعون المشارقة الكـلدان المعروفـين بالنساطرة ، قامت بأنـشطـةٍ متـنـوِّعة حيث أنشأت مدارسَ لهـؤلاء النساطرة الكـلدان ووَفـَّـرَت لهم مُخـتـلف الخـدمات الطبـية ، فـنالـت التقـديرَ والثناء مِن لَـدُنهم وأقبلـوا على اكـتساب العِلم والثـقافة فشكَّـلَ ذلك غضباً وامتعاضاً لدي المبشريـن الأنكـليكان لسبَـبَـين أولهما رفض النساطرة لمطـلبهم بتغـيير مذهبهم النسطوري الى الأنكـليكاني البروتستانـتي ، والثاني خِشيتهم مِن ضياع الفرصة على الانكليز في استغلالهم لتحقيق أهدافهم الإستعمارية عن طريقـهم فيما لو تـكـثـلكوا حيث سيُصبـح تَوَحُّـدُهم تحت راية الكنيسة الام الجامعة مفروغاً منه تلقائياً ، ولـَما أفلحوا في ايجاد تسمية قومية دخيلة لهم بدلاً مِن تسميتهم القومية الكلدانية الأصيلة ، فصَمَّموا على فعل كُلِّ ما بوسعهم لقـلب المعادلة لصالحهم بأيِّ ثَمَن وبأية وسيلة .

وذكرت ( مجلة النجم العدد الخامس لعام 1929 م )  وعِبر مُخططهم هذا علموا بأن مار شمعون روبين طلب مِن شقـيقِه وابن عَمِّه أن يُسافـرا الى الموصل ،  ويطـلبا مقابـلة البطريرك الكلداني الكاثوليكي للبحث في موضوع توحيد شطرَي الكنيسة ، وفي أثناء وجود مبعوثي مار شمعون في الموصل للتـفـاوض بشأن الوحدة ، وافت مار شمعون المَنِيَّة عام 1903م ، وقـيل بأن الانـكلـيـز كانوا وراء الـوفاة ، حيث استغـلوا غيابَ إبن عم مار شمعون المُرشَّح لخلافتِه لوجوده في الموصل ، وقاموا ببذل جهودٍ مُضنية لتشجيع وإقناع النساطرة لتـنصيب إبن شقيق مار شمعون الثاني بطريركاً بدلا ً عنه ،  وبذلك استطاعوا إضاعة فرصة قيام الوحدة ، وكانت تلك ضربةَ قاصمة  > . هذه المقالة مستلة من كتابي المجلد الأول ( الكلدان والآشوريـون عبر القـرون ) الذي سيظـهـر قـريباً .هذه هي الحـقـيٌقـة التاريخية لفـرضيتكم الآشورية العـقيمة والى الجـزء الثاني قـريباً .

 

الدكتور الشماس كـوركـيس مردو

                                                                                                                                 الجزء الثاني

أما يكـفـيكَ كـذباً ؟

لقـد أوضحنـا في الجـزء الأول من مقالتـنـا هذه وبالأدلـة والبراهين انـقـراض الآشوريين القـدماء ، وكـيـفـيـة ظـهـور منتـحـلـين لإسمـهم بعـد مـرور 25 قـرناً من زوالـهم الأبـدي ، ومَـن كان وراء هذا الظـهور والـهـدف مِـنه . ولنأتي الآن الى الإفـتـراءات والأبـاطـيـل التي يـُرَوِّج لـها الـداعية الآشوري آشور كيـوركيس  وتـهـجـُّمـه الـوقـح على رجال الكنيسة الكاثوليكية ولاسيما رجال كـنيستنا الكلدانية المقــدسة ، وبكُـلِّ صـلافةٍ يـعـود ويقـول :

  < لا نستطيع الوقـوف وقـفة المتـفـرِّج أمام ما يقـوله رؤساء كـنيستـنا الكلدانية وخصوصاً في ما يـتعـلـق بالشأن القـومي ، وإلا فـيحـق لأيٍّ كان من غـير رجال الدين ، أن يعـقـد اجتماعات لـيخـرج بقرار حـول طبيعة السيد المسيح أو الثالـوث أو ما هنالك من امور روحية . . . فسبـب هذه الممارسات الشاذة لبعض رجال الدين من جهة ، وعمالة بعض الساسة الآشوريـيـن للغرباء من جهة اخرى ، تـتـوسع هذه الآفة الخـطرة ليـتم فهم الهـوية الآشورية بشكل خاطيء من قبـل المجـتـمع الكاثـوليـكي على أنها هـوية طائـفـية تخـص أبناء الكنيسة الشرقية دون غيرهم ، بحيث نلاحظ منذ مهرجان يونادم كنا الإنتخابي في تشرين الإول عام 2003 تـزايـد الحملات الإستفـزازية من قبـل مَن هـبَّ ودبَّ ليحمل قلمه ويتهجـم على هويته الآشورية ، ولكن رغـم سذاجة تلك الحملات إلا أن هناك إناس “اناساً ” بسطاء يقـرأونـها واجيال “وأجيالاً ” يتـم إفسادها في سبيل إشباع رغـبات كاتبٍ أرعـن أحـبَّ التعـويض عن سنوات الضياع في بعثيته الغبية أو شيوعيته الخائبة أو كـردويتـه الذليلة . >                                                      

 (أطلب المعـذرة من القـراء الكرام لتصحـيحي بعض الأخـطاء الـنحـوية والإنشائـية أو الإملائية الواردة في مقاله الطـويـل والمؤشرة باللـون الأزرق ) في العبارات الأولى يقصد بعـدم أحقـية رجال كنيستنا الكلدانية بالتـدخل بالشأن القـومي ، وإلا فلغير رجال الدين الحـق في التدخـل في صلب اختصاصهم اللاهوتي وإن لم يستـطع التعبير عن ذلك بشكل صحيح لأنه شحيح المعرفة باللغة ! ويرى في حـقهم الشرعي بالتعبير عن آرائهم بشأن انتمائهم القـومي ممارسة شاذة ، ولكن مثل هذه الممارسة وبشكلها الحاد التي يقـوم بها رجال الكنيسة النسطـورية  يُبـرِّرُها هذا المُـرائي ، ويعـتـرف بها جـهاراً حيث يقول في موضع آخـر < وبما أن حـركة التحرر الآشورية بـدأت من كنيسة المشرق، وتحت قيادة العائلة البطريركية ، حتماً سيكون الاسم الآشوري مكروهاً من قبل رؤساء الكنيسة الكلدانية > أرأيتَ أيها القـاريء العـزيـز كيف يُـبـرِّر للكنيسة النسطـورية قيادة التحـرر السياسي ، ويُحـرِّم على الكنيسة الكلدانية حتى التعبيـر عـن رأيـها بالشأن القـومي ! أليس هذا تناقضاً صارخاً من قبـل مُهَـرِّجي هذا الـزمان !

ويسترسل هذا المُفتـري فيقـول : < قـبـل تسلـل إرساليات الكثلـكة الى الشرق الأوسط منذ القـرن الرابـع عشر، بـدأت بـوادر اضطهاد كنيسة المشرق تظهـر من مكتب بابا الفاتيكان ، الذي منه كان يتم تـدبير المجازر والإضطهادات في كُلِّ بـقعـةٍ في العالَم تقع في أعـيـُن فرنسا واسبانيا والبرتغـال ، ونستطيع القول بأن ليس هناك  أية كنيسةٍ تأسست في الشرق عبر امتـداده من مصر حتى الفيليبين إلا تحت وطأة المجازر والتجـويع بإشراف الفاتيكان وباباواتـه وكـرادلـته ، وأبـرز تلك الكنائس هي الكنيسة الكلدانية نفسها ، وقد بـدأت ملامح ذلك من قبرص حين وجـَّه البابا يوحنا الثاني والعشرون( 1316 -1334 م ) تعليماته الى بطريرك اورشليم بـوجـوب استئصال النسطورية واليعقـوبية من قبرص بالطـرق التي يـرونـها مناسبة >

نـقـول ، من أهم واجبات الكنيسة الأم الجامعة التي أسسها المسيح الرب برئاسة زعيم رسلـه بطرس الصخر عندما قال لـه : < وأنا أقـولُ لكَ :أنـتَ صخـرٌ وعلى الصـَّخـر هذا سأبني كنيستي ، فـلـن يـقـوى عليها سُلـطـانُ المـوت . وسأعـطـيـكَ مـفـاتيـحَ مـلـكـوتِ السَّمـوات . فـما ربـَطــتـَه في الأرض رُبـطـَ في السَّمـوات . وما حَـلـلـتـَه في الأرض حـُلَّ في السَّمـوات . متى 16 / 18 – 19 >  فهذه السلـطـة الإلـهية أعطـيـت لبـطرس رئيس الكنيسة المنـظـور ولـخـلـفـائه بـابـاوات روما من بعـده . وقال لـه أيضاً : < يا سمعان بن يـونا ، أتُـحِـبـُّني أكثر مِما يُحِبـُّني هؤلاء ؟ قال لـه : نـعـم يـا ربّ ، أنتَ تـعـلـَم أنـّي أحِبـُّكَ حُـبـاً شديـداً . قال لـه : إرعَ حُـمـلاني . قال لـه مـرة ً ثانية : يا سمعان بن يـونا ، أتُـحِبـُّني ؟ قال لـه : نـعـم ، يا ربّ ، أنـتَ تـَعـلـمُ أنـّي أحِبـُّـكَ حُـباً شديـداً . قـال لـه: إسهـر عـلى خِـرافـي . قال لـه ثالـثـة ً: يا سمعان بن يـونا أتـُحِبـُّني حُـباً شديـداً ؟ فـحـزن بطرس لأنـَّه قال لـه في المـرة الثالـثة : أتـُحِبـُّني حُـباً شديـداً ؟ فقال : يا ربّ ، أنتَ تـَعـلـمُ كُـلَّ شيء ، أنتَ تـَعـلـمُ أنـّي أحِبـُّكَ حُـباً شديـداً . قال لـه : إرعَ خِـرافي . يوحنا 21 / 15 – 16 – 17 > وهـنا جـعـلـه الـراعي الأول وعـهـد إليـه بالمهـمة الـرعـوية ، وعلى هذه الـنصـوص استـنـدت عـقـيـدة عـمل المجـلس الرسولي والبـابـا الذي يـرأسه . فمن واجب الكنيسة أن تبحث عن أبناء الكنيسة الضالين وتُـعيـدهم الى الحـظـيرة الآمنـة عن طـريـق الإرشاد والتـوعـية ، ومـن بـين هـؤلاء الأبـناء كانـوا أبـناء الكـنيستـيـن الهـرطـوقـيـتـيـن النسطـورية واليعـقـوبـية ، ولم تستخـدم الكنيسة الجامـعـة أيَّ نـوع ٍ من الأساليب القـسرية التي أشرتَ إليها تـَجـَنـّياً وافتـراءً ، أساليب الكنيسة هي المحبة والحـنان والإرشاد . أما ما يقـولـُه أعـداؤها من الإنكليـز الأنكليكان الذين ابتـدعوا اسطـورة التسمية الآثـورية التي حُـوِّرت في العقود المتأخرة من القرن العشرين الى (الآشورية) وأجـبروا الجـزء الضال من أبناء الكنيسة الكلدانية النسطورية المعروفين بـ ( الكلدان النساطرة أو كلدان الجـبـال ) على تـبنـيها نـكاية ً بإخـوتهم الكـلـدان الكاثوليـك، هي أقـوال كاذبة وانتقامية، وقـد روينا القصة في الجـزء الأول من مقالنا تحت الرابط  : <  http//www.ankawa.com/forum/index.php?action=printpage,topic=311181.0 >

ونـورد أدناه تـأكـيـدات لـهذه القـصة أدلـى بها الباحـثـون والمـؤرخـون والـرحالـة مِن العـراقـيـيـن والأجـانـب الذيـن تـحـدثـوا عن الـدور الإنـكلـيـزي في حـبـك اسطـورة التسمية المسـخ !

شهادات المؤرخين عن حـقـيقـة مُنتحلي التسمية الآشورية

يقول  جون جوزيف في كتابه ( النساطرة ومُجاوروهم الإسلام / ط . 1961م ) <  إن الإرسالية التبشيرية الانكليزية التي استفـردت بالنساطرة الكلدان في منتصف القرن التاسع عشر ، كانت تُـلَقَّـب بِـبِعـثةِ رئيس أساقفة كانتيربيري الى المسيحيين النساطرة ، وهي أول مَن أطلقَ عليهم تسمية ( آثوريين )  >  .   وفي كتابه  ( خُلاصة تاريخ الكُرد وكُردستان ) يقول الباحث أمين زكي بك  <  إن الآثوريين هم أحفاد كلدانيي بلاد ما بين النهرين ، الذين هَجَروا بلادَهم الأصلية بسبب اضطهاد الغزاة والفاتحين ، ولجأوا الى جبال منطقة هيكاري منذ عهدٍ قديم جداً >  ويقول المؤرخ أحمد سوسة <  إن الانكليز هم الذين ابتـدعوا قضية العـلاقة بين مَن أطـلقـوا عليهم ( الآثوريين ) وبين ( الآشوريين ) .

يُؤَكِّـدُ السيد كيوركيس بنيامين بيث أشيثا في كتابه ( الرئاسة / طبعة شيكاغو 1987م ) والذي عاش هذه المأساة  فتكونُ شهادتُه أدمغ وأصدق حيث يقول :  <  إن كُلَّ هؤلاء الكُـتّاب الأجانب الذين كانوا يأتون لزيارة ديارنا لم يستخدموا أبداً اسم ( الآثوريين ) الذي نتداوله نحن اليوم ، بل كانوا يقولون عنا , أو  يدعوننا بالكلدان ولو كُنا نختلف بالمذهب ، وإن إسم ( الآثوريين ) أبتـدأَ بـتـداولِه الانكليزُ منذ نهاية القرن التاسع عشر ، عندما وصل المبشرون الانكليز مِن انكلترة الى ديارنا سنة 1884م >

وإني أنصح الكتاب المتزمتين والمُنَظِّرين مُدَّعي الآشورية المعاصرين أن يقرأوا كتاب ” رحلة مُتنكِّر الى بلاد  ما بين النهرين  وكُردستان / تأليف سون ”  وقد إتَّخذ اسم   ”  ميرزا غلام حسين شيرازي ” وهو يُسمّي كُلَّ المسيحيين المُتواجدين في هذه المناطق ومِن ضمنها منطقة هيكاري بالكلدان . أوأليس البطاركة النساطرة أنفسهم  وحتى آخرهم “ايشا شمعون ” المُغتال عام 1975 م  كان ختـمُه  يقرأ (بطريرك الكلدان) ! ! !

أما المُنشيء البغدادي (( ايراني الجنسية اسمه  محمد بن أحمد الحسيني المُشيء البغدادي )) يقول عن المدن والقرى التي مَرَّ بها عن طريق الموصل وشاهدها في رحلته عام 1822 م في ( الصفحة 85 – 86 ) .

((  مِن دير الربان هرمز الى القوش فرسخٌ واحد ،  وهذه القرية نفوسها نحو ألفي بيت ، كلهم مِن الكلدان ،  وجـبلهم هذا في حكم باشوات العمادية  .  ومِن القوش الى تللسقف أربعة فراسخ . . .  وفيها ألف بيث كُلُّهم كلدان  . ومِن تللسقف الى تلكيف فرسخان ، وهذه تبلغ ألفي بيت كُلُّهم كلدان . . .  ))

ويـقـول الكاتـب عبد المجيـد حسيـب القيسي في معرض حـديـثه عن الأحـداث التي وقـعـت في الموصل في 15 آب 1923 م  في ( الصفحة 96 / هوامش على تاريخ العراق السياسي الحديث ”  الآثوريون ”  )             ((  الآثوريـون قوم وافـدون ، وإن إدَّعـوا لهم ماضياً وتاريخاً سابقاً في العراق ،  وهم أقـلية مسيحيـة نسطوريـة المذهب لا يتـفـق جميع المسيحـيـيـن على تـخريـجاتهـم حول طـبيعة السيد المسيح .   ويستطرد الكاتب : كمُجتمع لا ينظر إليهم المُسلمون بعين الود والإرتياح . وما يزال العرب والأكراد والتركمان في الموصل وكركوك يذكرون أخبار صِدامهم معهم .كما لا يزال الرأي العام العراقي يذكر مواقفهـم المتشدِّدة في عصبة الامم لعرقـلة اكتساب العراق عضويته استكمالاً لإستقلاله. وفوق كُلِّ هذا فإن وثيق صلتهم بالإنكليز أوضح مِن أن تحتاج الى بيان ، وبالتالي فالآثوريون قوم لا ينتصر لهم عرب ولا أكراد ولا سنة ولا شيعة ، بل ولا مسيحيون . ))

يقول المؤرخ العراقي عبدالرزاق الحسني في كتابه  ( تاريخ الوزارات العراقية / المجلد الثالث ص . 254 – 255 ) <  إن الانكليز وحدهم فقط  يُطلقون على النساطرة اسم ( الآثوريين ) بينما الجميع يُدعونهم ( تيارية ) ويُضيف ولا علاقة عِرقية لهؤلاء النساطرة بآشوريي نينوى، وإنما هم نساطرة مسيحيون ، دَمَّرَ تيمولنك كنائسَهم ، فتبَدَّدَ شملُهم فاحتوتهم المنطقة الجبلية الواقعة في شرق تركيا ، ولدى استيلاء الروس على ولاية وان الارمنية في تركيا سنة 1915 م أغروا هؤلاء النساطرة بالتمرد على الأتراك وأغدقوا عليهم السلاح للقيام بالثورة ضدهم ، إلا أن الفشل الذي مُني به الروس أدّى الى انسحابهم ، مِما وَفَّرَ للأتراك فرصة للفتكِ بهم وتكبيدهم آلاف القتلى ، أما الناجون منهم فقد لجأوا الى المناطق الشمالية مِن ايران .

ويذكر توفيق السويدي في ( مذكراته ص . 243 ) بعد انتهاء الدور الروسي بالنسبة الى هؤلاء النساطرة ، ابتدأ معهم الدور الانكليزي ،  حيث تـلقَّـفتهم المملكة المُتحدة ،  وأرسلت إليهم يعـثةً عسكرية فاجتمعت بهم في اورمية ودَعَتهم للثأر مِن الأتراك ، وتـمَّ الإتفاقُ بين الجانبين وبناءً الى ذلك الإتفاق ،  بادرت بريطانيا بشحن كميةٍ كبيرة مِن الأسـلحة الى هؤلاء النساطـرة في شهر تموز مِن عام 1918 م ولكن الأتراك فاجأوا النساطرة بهجوم على اورمية قبل أن تصل إليهم الأسلحة ، مِمّا أدّى الى قتل عددٍ كبير مِن هؤلاء النساطرة ، فاضطرَّ الانكليزُ الى نقل الناجين منهم الى منطقة بعقوبة العراقية ، وكان عددُهم التقديري خَمسينَ ألفِ نسمة بضمنهم عشرة آلاف مِن نسطوريي ايران عادوا الى ايران بعد اتهاء الحرب ، وخمسة عشر ألف أرمني ونحو خمسةٍ وعشرين ألفاً مِن نساطرة تُركيا لم تقبل تركيا  بعودتهـم إليها مُتَّهِمةً إياهم بالخيانة ، فكان لزاماً على الانكليز مُساعدتَهم على العيش في العراق لأنهم كانوا السبب في إغرائهم لخيانة بلدهم ، فاستخدمت الرجال منهم بأعمال الطرق ، وأقامت مُخَيَّمات لسُكنى عوائلهم .

ويُضيفُ عبدالرزاق الحسني في (الصفحة 256 مِن المجلد الثالث لكتابه / تاريخ الوزارات العراقية ) بأن الكولونيل الانكليزي ( ليجمان ) عَـنَّـت له فـكرة إسكان هؤلاء النساطرة في القرى الكُردية الواقعـة على الشريط المُحادِد لتُركيا عقاباً للأكراد الذين أعلنوا العصيانَ عليهم مَرَّتَين ، وقد نالَ الإقتراحُ تأييدَ  ن.ت.ولسن الحاكم الملكي البريطاني العام في العراق ، حيث أجرى اتصالاً بَرقياً بهذا الخصوص مع وزير الحربية البريطاني في شهر آب مِن عام 1920م ، وقد إستَهَـلَّ رسالتَه البرقية كما يلي : < سَتَـتَـوَفَّرُ لدينا فرصة تُتيـحُ لنا إنصافَ الطائفة الآثورية بشكل يُرضيها ويُرضي الأفكار الاوروبية مِن حيث الحَقِّ والعدل ،  وتُساعدُنا على ايجاد حَـلٍّ لأَعسر مُشكلةٍ تَخُصُّ الأقـلية الدينية والعِرقية في كُردستان ،  وتجعـلُنا في مأمنٍ مِن خَطر قد يُهَـدِّد السِلمَ في شمال الفـُرات ،  وفي ذات الوقت نكون قد عاقـبنا مُثيري إضطرابات العمادية ، إنها فرصة لن تـعودَ ثانيةً >   وقد تَمَّ تكليف المُبَشِّر وليم ويكرام ذي الخبرة الواسعة بشؤون هؤلاء النساطرة للإشراف على تنفيذ هذه الخِطة ،  ولكن الامور لم تجر كما كان متوَقعاً لها ففشلت نتيجة التَحَرُّك التركي ونشوب اضطرابات في ضواحي الموصل .

يتحَدَّث يوسف إبراهيم يزبك في كتابه ( النفط مُستعبد الشعوب ص . 233 – 234 ) بأن الكولونيل الانكليزي ليجمان وأثناء تواجُدِه في الموصل ، كَلَّمَ سُكّانَها مِن العرب قائلاً لهم ، إنكم مِن اصول الآثوريين ، وإني لَمُستغرب مِن عدم دِرايـتِكم بتاريخ أجـدادِكم ولا عِلمَ لكم بكونِهـم أحفاد الآشوريين الذين شَيَّـدوا مجدَ نينوى ، فرَدّوا عليه قائـلين : نحن أحفاد عرب الفتوحات ونعلم جيداً أن أسلافنا عند مجيئِهم الى الموصل لم يجدوا فيها سوى الفرس المجوس يسكنون في محلة ، والمحلة الثانية كان يسكنُها المسيحيون الجرامقة. ومِن المعروف تاريخياً أن الجرامقة هُم تَشَعُّبٌ مِن تَشَعُّبات الكلدان المُتعدِّدة ، و قد أشار الى الموضـوع ذاته  القس سليمان الصائغ ( المطران لاحقاً ) في كتابه ( تاريخ الموصل / الجزء الأول ص . 51 – 52 ) . ويَروي السيـد يزبـك في ( الصفحة 236 و237 و 238 و 242  مِن نفس الكتاب )، بأن ليجمان طـلبَ مِن مُحَرِّر جريـدة الموصل وهو صحفي كلداني أن ينشر خَبراً عن زيارة ( سورما خانم ) التي لَـقـَّـبَها بأميرة الآثوريين الى لندن ، للمطالـبة بتحقـيـق الوعود التي تَعَهَّدها الانكليزُ لقومها ، بإقامة وطن قومي للآثوريين في شمال العراق ، فأجابَه الصحفي بذهول مُستغرباً مِن كـلامه قائلاً : لم يسبق لي أن سمعـتُ بـوجود قـوم باسم الآثوريين وله أميـرة ، ثمَّ أردف الصحـفي بأن هؤلاء النساطرة الذين تتحدَّث عنهم لا علاقة لهم بالآشوريين ،  ولكن الكولونيل الانكليزي ليجمان أصَرَّ على رأيه ،  وبحُكم موقـعه كقائـدٍ  بريطاني مُطالَـبٍ  بالعمل على تحقيق طموحات مملكـته كان يضغط  مِن مصدر قوة على مُحَرِّر الجريدة لينشُرَ أخباراً عن الآثوريين  ، وقد فاجأَ مُحَرِّرَ الجريـدة بقـدومه يوماً الى مقـر الجريدة وأملأََ عليه ما يلي : < انشُر أخباراً عن الآثوريـيـن  وعن أميـرتهم   ( سورما خانم )  صاحبة السمو عمة مار شمعون ،  وفي عددِك لهذا اليوم ،  انشُر بأن صاحـبة السمو الأميرة  سورما موجـودة في لندن  منذ بضعة أيام وقد قامت بزيارة عددٍ مِن كـبار المسؤوليـن الحكوميين ،  وقابلت أصحابَ الشأن الكبار مُطالبة ًإياهم بتحقـيـق الوعود التي قُطعت مٍن قبلهم لمُواطـنيها أثناء الحرب  بإقامة  وطن قوميٍّ  للآثوريين  والكـلدان في المنطـقة الشمالية  مِن العراق وبالتحديد مِن شمال الموصل وحتى الحدود التركية ، وكَرَّرَ الصحفي مرة ثانية استغرابَـه مِن أقـوال لـيجمان نافـياً وجود قـوم باسم الآثوريين تتزعمُهـم أميرة ، واسترسلَ بشرح الحقـيـقة له ، بيدَ أن ليجمان نصحَـه بعدم تكرار ما سمعه منه لأن ذلك برأيه  يُـؤدّي الى حدوث انشقاق بين مسيحيي الموصل ومُسلميها  ،  ويواصل المُؤلـف الكلامَ قائلاً : بأن الإستعمار البريطانـي تمَيَّـزَ بدهاءٍ نادر في  لعبه مع التياريين النساطرة الذين أطلقَ عليهم اسمَ الآثوريـين عَمداً لتسخيرهم في خدمة  مصالحه ،  وأوعز الى وسائل أعلامه لنشر كُلِّ ما يُثير اهتمام العالَم في سبيل كسب رأيه وعطفه  لمُساندة هؤلاء المسيحيين المُضطهدين مِن قبل الأكثرية المُسلمة ، ويُضيف  بأن صفحات كتابه لا تتسع سطورها لوصف الأحداث التي قام بتنفيذها التياريون المدعوين خطأً بالآثوريين ، تلك القبائل الساذجة التي جنى عليها الإستعمار البريطاني ، وجعل منها حطباً لموقـد مطامعه ، فهي لم تَـكن تعرف عن آشور شيئاُ ولا خَطـَرَ في بال أبنائها يوماً بأنهـم ورثة  الآشوريـين القدماء إطـلاقاً .  ومن أطرفِ ما رواهُ الكاتبُ عَمّا كان يجري بين الانكليز والنساطرة ،  بأن كاهناً كاثوليكياً مِن أبناء الموصل مشهوداً له  بعِلمِه ونزاهتِه ووطنيتِه  عَلَّقَ قائلاً : إن المُستعمِرين ويقصد بهم الانكليز قد أعطوا اهتماماً كبيراً لجماعة مار شمعون ،  وقال بالنَص  ”  فأَثْـوَروها وما زالوا بها حتى ثَـوَّروها  ”  .

وفي حاشية ( الصفحة 257 مِن المصدر / تاريخ الوزارات العراقية / المجلد الثالث ) ورد نقلاً عن التقرير البريطاني ما يلي : < قام الانكليز بتجنيد ما يُقاربُ ألفي فَردٍ مِن هؤلاء النساطرة ، إستعانوا بهم في قمع ثورة العشرين 1920 أطلقوا عليهم ( الجيش الليفي ) ،  لقد سَئِمَ النساطرة العيشَ في المُخيّمات فانتشرَ التذَمُّرُ بين صفوفهم ، ولتهدِئَة غضبهم ومعالجة خيبة أملهم في قياداتهم  وفي الانكليز كذلك ،  إقترح القائدُ الكبير أغا بطرس إقامة  حكومة آثورية  تمتدُّ حدودُها مِن شمال الموصل  وحتى الحدود التركية ،  لاقـت الفكـرة ترحيـبَ الانكليز  واستحسانـَهم لرؤيـتهم فيها  خِدمة ً  لأهدافهـم  وتقوية ً لاستراتيجيتِهم فنقـلوا المُخيّمات الى منطقة ( مندان ) الواقعة شرق جبل مقلوب بين الموصل وعقرة ، ولكن نصيبَ هذه الخطة كان الفشل . لم تتوانى كتائب الليفي النسطورية في إسداء خدمةٍ كُبرى للإنكليز حيث كانت تتصَدّى لكُلِّ مَن يُحاول المساسَ بمصالح المملكة المتحدة مِن العرب والأكراد .

جاءَ في كتاب ( القضية الكُردية والقوميات العنصرية في العراق ص . 97 – 98 لمؤلِّفِه لوقا زودا ) بأن دوائـر الإستخـبارات الانكليزية لم تألُ جُهـداً في جمع مَن أطـلقـت عليهم اسم ( الآثوريين ) في منطقة نينوى عاصمة الآشوريين القدماء وتشكيل جيشٍ مِن عشائِرهم يَكونُ نـواة لصيانة الوطن القومي المُقـترح إنشاؤه لهم تمهـيداً للوصول الى إعلان الإستقلال لدولة آشور الموعود بها مِن قبل البريطانيين ، عندما نجحوا في  إقناعِهم للقتال الى جانبهم ، ولكن الانكليز كانوا يُتقـنون اللعبَ على الحَبلين بادائِهم دوراً مُزدوجاً ، ففي الوقت الذي يُحَرِّضون النساطرة على المُطالبة بالإستـقلال ، في الوقت ذاته يوشونَ بهم لدى الحكومة ويدفعونها للقيام بقمع حركتِهم . أما مؤلفا كتاب ( العراق في التاريخ / الفصل الثاني ص. 661 – 662 ) الدكتور مظفر عبدالله والدكتور جهاد صالح ، فيُشيران الى تَوَرُّط النساطرة المُتأثورين ،  بقيامهم بحركةِ تَمَرُّدٍ في شمال الوطن في عهد الملك فيصل الأول وقبل وفاته بفترةٍ قليلة ،  وقد قام بكر صدقي باعـتباره قائـدَ الجيش العراقي وبالإتـفاق  مع وليِّ العهـد العراقي الأمير غازي ورئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني ووزير الداخلية حكمت سليمان بقمع التَمَرُّد بشكل عنيف ومأساوي في شهر آب 1933م ، وجرى ذلك أثناء غياب الملك فيصل خارج الوطن . وقد تَكَـبَّـدَ النساطرة عددأ كبيراً مِن القتلى رجالاً ونساءً وأطفالاً والتجأ الناجون الى القرية الكلدانية العريقة ألقوش فاحتضنتهم وامتنعت عن  تسليمهم للجيش رغم كُل التهديدات بقصف القرية وسُكّانها ، وتلك لَعَمري مأثرة كلدانية خالدة للكلدان وللأسف تناساها العنصريون مِن بقاياهم الذين هاجروا الى الديار السورية والذين مكثوا في العراق على السواء ، إنه لنُكران للجميل ما بعده نُكران !

لـقـد ذكرنا الشواهد أعلاه لتـفـنيـد الإدِّعاءات الباطـلة  التي  نحن  بصدد  الكشفِ  عن  زَيـفِـها  هي  تلك  الأفكار  والايـديـولوجيات  السياسية  التي  تَستميـتُ  أحزابُ  ومُـنـظـماتُ  دُعاة  الآشورية  المعاصرين  الى  فَرضِها  على  سليلي أبناء  الرافدين  الأصليين  كلدان اليوم ، الذين  يُمـَثـلون  نسبة  80 %  مِن المسيحيين الناطـقين  باللغة الكـلدانية  السوادية ( السورَث ) بمُختـلف لهجاتِها  ، وذلك  بتبنّي  مَنهَج  مُبَرمَج  على  شاكلة  المنهج  البعثي  الذي  تبنّى في مُنتصف  القرن العشرين  الماضي ،  نظرية َ تعريب  مواطني  العراق غير العرب  ،  باعتمادِه  منهجاً  مدروساً  يهدف الى  إلغاء  الهوية  القومية  الرافدية  والهوية  الوطنية  العراقية  عنهم  وصهرهم  في  الهوية  العربية  على  غير  حق .

هذا الشيء  ذاتَه  تَبَنَّته  احزابُ  مُنتحلي التسمية  الآشورية الشوفينية  (  نعتي  لهم  بالمنتحلين  يعود لعدم وجود  أية  رابطة  تَربُطهم  بآشوريي العهد  القديم  عِرقية  كانت  أو  تاريخية )  مُستغلةً  السُبات  الفكري  والانعزال  المناطقي  والخلاف  المذهبي  ،  هذه  العوامل  التي  سَهَّلت  لطغمة  الأحزاب  المُزَوِّرة  لتسميتِها  الغريبة ( الآشورية )  واللاهثة  بكُلِّ  قِواها  لإحيائها  وانتشالها  مِن  لَحدِها  الذي احتواها  قبل  أكثر مِن ستةٍ  وعشرين  قرناً ، تمريرَ عملية  الخداع  والضحك على  ذقون العامة  مِن الشعب المسيحي ولا سيما  غالبيته الكلدانية الساحقة ، ألا  وهي  بعث  الآشورية  المقبورة منذ  قرون سحيقة كما  قلنا ، و جَعلِها  قومية في الوقت  الذي لم  تَكُن  في أوج  عظمة  الدولة الآشورية البائدة في ماضيها البعيد  قومية ! بل  تسمية موطنية  مُستمدة  مِن  الاسم  الثُنائي  لمدينة آشور  وإلهها  الجبلي  الأجنبي ( آشور ) فكيف  يُمكن  لمُنتحليها  زوراً  أن  يجعلوا  مِنها اليومَ قومية ؟ وقد أوضحنا  ذلك  في موضوع ( الحقبة  الآشورية الاولى  2250  –  1813 ) من كتابنا هذا .

 كثيرة هي التجَنيات الإدعائية  التي دَأَبَ على تَرويجِها أحفادُ  كلدان الجبال ساكني منطقة  آثور ( هيكاري بقسميها  العلوي  والسُفلي ) مُنتحلو التسمية الآشورية زوراً ولا زالـوا ، ضِدَّ  أبناء الامة الكلدانية المُعاصرين، في الـوقـت الذي تؤكـد كُلَُ المصادر والمُعـطـيات التاريـخـية خروجَـهـم هـم أنـفسهم مِن صُلـبِـ، هذه الامة العريقـة النبـيلة ، ومع ذلك لا يألـون جهـداً في النيـل مِنـها بالإفـتـراء والتشويه والتـزوير والتسيـيـس ، فقـد جاهدت واجهاتُهم السياسية المُتمَثِّـلة بألأحزاب والمُنـظمات ذاتِ الأفكارالتهـوُّريـة المريـضة بعـقـدة الشعـور بالنـقـص الضاربة أطنابــُها في أذهـان مُنتسبـيـها  نتيجة معرفـتهم الأكـيدة بأنهم واقعـون في ورطةٍ جسـيمة وخاطئة بخيانتهم لأمتهم الكلدانية وبانتحالهم هوية ً مُزوَّرة (الآشورية) بدل الهوية الكلدانية الحـقـيـقـية ، وقد قطعـوا شـوطاً كـبيراً في هذا الدرب الخاطيء الى حَدِّ إستحالة العدول عن الخطأ و العودة الى درب الصـواب، ومِن هذا المنطـلق فهـم يستخـدمون كُلَّ الوسائـل مهما كانـت مُهـينة ودنـيـئة للتمادي في غِـيِّـهـم  والإصـرار على فرَضيتهم الآشورية الاسطورة المصطـنعة مِن قبل المُخادعين الإنكليز . والأنكى في هذا الموضوع ، قـيامُهم بتضليل شعبهم عن طريق تلقـينهم أبناءَه الأبـرياء وحَـثًًًًّهم على ترديد أقـوالهم الإفـترائية بالطريقة البـبـغائية التي لا  يفهمـون معنىً  لها  ولا يـدرون هول عواقبها  .

  د. الشماس كـوركـيس مـردو


LEAVE A REPLY